كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلًا {أفتعبدون} الآية وقد مر في سورة سبحان أن أف صوت يدل على التضجر، والام لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. {قالوا حرقوه} المشهور أن الذي اشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنه رجل من إعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتًا كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله: {ابنوا له بنيانًا فألقوه في الجحيم} [الصافات: 97] ثم جمعوا له الحطب الكثير اربعين يوما حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبًا لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيدًا مغلولًا فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة: أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل. وروي أنه قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال: يا إبراهيم هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي: فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو: أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوما أو خمسين. وقال: ما كنت أيامًا أطيب عيشًا مني إذ كنت فيها قلت: وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالسًا في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم: هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم. فقام يمشي حتى خرج. فقال نمرود: إني مقرب إلى ربك قربانًا فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة. قال العلماء: اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا جاء في الحديث: «لا يعذب في النار إلا خالقها» ومن ثم قالوا {وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين} أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا قويًا فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها {قلنا} عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب ابو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهمًا يصح به التخاطب، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله: {يا نار} خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل: المذكور اسم الماهية فلابد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل: إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل: خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل: جعل بينه وبين النار حائلًا منع وصول اثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة، وليست الحرارة جزءًا من مسمى النار حتى يمتنع كونها نارًا وهي باردة، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله: {وسلامًا} أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم، أو ابردي بردًا غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله: {على إبراهيم} حال من فاعل الكون أو متعلق بـ البرد والسلام، ولولا هذا القيد لكانت النار بردًا على كافة الخلق، قوله: {فجعلناهم الأخسرين} وفي الصافات {فجعلناهم الأسفلين} [الآية: 98] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله: {لأكيدن أصنامكم} وكادوه لقوله: {وارادوا به كيدًا} فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات {قالوا ابنوا له بنيانًا فألقوه في الجحيم} [الصافات: 97] فأججوا نارًا عظيمة وبنوا بناء عاليًا ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبة في السافلين.
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنيانًا وألقوه فيه، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقًا. فقال لهم حارث أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولَكِن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوا فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت، وهاجر إلى ارض الشام فذلك قوله: {ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها} اي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها. وقيل: ما من أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس. يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة. وقيل: الأرض مكة {ووهبنا له} أي لإبراهيم {إسحق ويعقوب نافلة} هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط، وقيل: النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء، وعلى هذا احتمل أن يكون حالًا من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلًا من غير سؤال. واحتمل أن يكون حالًا من كليهما أي وهبناهما له عطية منا، والأول قول مجاهد وعطاء، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج {وكلا} من إبراهيم وإسحق ويعقوب {جعلنا صالحين} قال الضحاك: اي مرسلين وقال غيره: عالمين عاملين. وفي قوله: {جعلنا صالحين} وكذا قوله: {وجعلناهم أئمة} دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه اراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال: إن الحاكم عدل فلانًا وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله: {يهدون بأمرنا} اي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة: فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى.
وقالت المعتزلة: فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتديًا بنفسه كان الإنتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات} اي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من انفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفًا، فإن المقصود معلوم، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك {إقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا، قال الزجاج، حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها.
وقال غيره: الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. {وكانوا لنا عابدين} فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم ايضًا وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين.
قوله: {ولوطًا} عن الزجاج أنه معطوف على {أوحينا} وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله: {ولقد آتينا إبراهيم} والحكم الحكمة، وقيل الفصل بين الخصوم، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في الأعراف وفي هود. و{قوم سوء} نقيض رجل صدق {وأدخلناه في رحمتنا} أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق: حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله: {ونوحًا} وكذا نظائره معطوف على قوله: {ولقد آتينا} أو المراد واذكر نوحًا. و{إذ نادى} بدل منه اي اذكر وقت ندائه {من قبل} هؤلاء المذكورين والنداء هو دعاؤه على قومه بنحو قوله: {رب إني مغلوب فانتصر} [القمر: 10]. وقوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] بدليل قوله: {فاستجبنا له فنجيناه وأهله} أي أهل دينه وهم من معه في الفلك {من الكرب العظيم} وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديدًا لا يكتنه كنهه. ثم زاده بيانًا بقوله: {ونصرناه} الاية. تقول: نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصرًا منه أي منتقمًا. {وداود وسليمان إذ يحكمان في} شأن {الحرث إذ نفشت} ظرف {ليحكمان} وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن: إنه يكون ليلًا ونهارًا. وليس في قوله: {وكنا لحكمهم} دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في {ففهمناها} للحكومة أو الفتوى. ويروى أنه دخل رجلن على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث. اي زرع. وقيل كرم- والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئًا. فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم غلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.
قال أبو بكر الأصم: الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله: {وكنا لحكمهم} ولقوله: {ففهمناها} والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكمًا خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد، فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلًا كالجبائي لقوله: {وما ينطق عن الهوى} [النجم: 3] {أن أتبع إلا ما يوحى إلى} [الأنعام: 50] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظارًا للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل ايضًا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [النجم: 3- 4] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللًا بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لَكِنه مشروط بصدوره عن غير معصوم، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعًا بين النقيضين، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح.
قال الجبائي: ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لَكِن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضًا إن اجتهاد داود إن كان صوابًا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله: {وكلا آتينا حكمًا وعلمًا} وايضًا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علمًا، وأيضًا قوله: {ففهمناها} يدل على أنه من الله لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفوًا عنها كما في حكم المصراة، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله.
أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقًا أو في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء: مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبدًا فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار، لأن جرح العجماء جبار. إلا أن يكون معها راع. والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار. وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطًا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. قال بعض الأصوليين: كل مجتهد مصيب لقوله: {وكلا آتينا حكمًا وعلمًا} وقال بعضهم: المصيب واحد لقوله: {ففهمناها سليمان} ولو كان كلاهما مصيبًا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتًا في شرعنا.
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلًا: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل: كيف سخرهن؟ فقال: {يسبحن} {والطير} وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل: كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان: كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطًا واشتياقًا. وعلى الثاني قيل: كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلًا للكلام، ولهذا يقال: إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم التسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفًا كالأطفال والمجانين: {وكنا فاعلين} اي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم.